الفصل الرابع عشر: الغريزة الوحشية
وسط شرود لين في الموقف و الصوت الذي يتردد في عقله .
تحرّكن نحوه فجأة.
كثعابين بيضاء خرجت من جحيمٍ متجمّد، اندفعت عشرات النساء من مدرّجات الجليد،
تنساب أجسادهن فوق الأرض كسيولٍ مسمومة،
عيونهن لا ترى سواه، كأن العالم كله قد انكمش في جسده المرتجف.
كان قلبه يخبط في صدره بجنون،
كطائر مذعور يحاول كسر قفصه.
أنفاسه مقطوعة، حلقه صلب كالحجر،
وقدماه… لم تعودا له.
كأن الجليد التصق بهما، أو كأن الأرض قررت أن تبتلعه.
“اركض…” صرخ عقله.
لكن جسده، مثل دمية مكسورة وسط عاصفة، لم يتحرك.
ظل واقفًا، بلا حيلة،
كفأرٍ محاصر في دائرة من الأفاعي الجائعة.
صرخة انطلقت.
قبل أن يدرك لين مصدرها، كانت واحدة منهن — ذات شعر فضي يتطاير كالثلج، وعينين قاسيتين كليلةٍ أبدية — تزحف فوق الجليد نحوه.
لم تركض.
بل انسابت كريح باردة، مخالبها تخدش الأرض، تترك وراءها أثرًا من شقوق دامية.
كأن الأرض نفسها تئن تحت وطأتها.
رأى ظلها يقترب بسرعة شيطانية — ولم تمنحه غريزته وقتًا للتفكير.
باندفاع يائس، تدحرج جانبًا.
شعر بالهواء الساخن لمخالبها وهي تمزق الفراغ الذي كان فيه رأسه قبل لحظة.
وقع أرضًا، يده انزلقت على الجليد، صدره يعلو ويهبط بأنفاس مجروحة.
“هم لا يحاربونني… إنهم يصطادونني.
اللعنة؟
وبعينين مرتجفتين، شاهد الباقيات وهن يقتربن — زحفًا، قفزًا، تلهفًا.
كأن الموت قد تجسد في عشرات الأجساد البيضاء… ولن يترك له مخرجًا.
وقف مترنحًا، ظهره مسنود على جدارٍ جليدي بارد.
أطرافه تخذله، عيناه ترتجفان من الخوف.
“لا أريد الموت هنا…”
سلاح…..سلاح……،انا احتاج سلاح.
وقبل أن يدرك كانت ذراع امرأة اخترقت جسده.
بصق لين دماءا.
وشعر لين بالموت يقترب.
ووسط الفوضى، وسط خطوات الأسلال التي تحاصره، سمع صوت المرأة البيضاء.
صوتها.
ببرود لا يعرف الرحمة، همست داخل رأسه:
> “أرِني… قيمتك.”
حينها…
تحرك شيء.
شيء أقدم من الخوف. أقدم من الألم.
شيء ظل مختبئًا في العتمة، ينتظر اللحظة المناسبة، اللحظة التي يُستدعى فيها.
يداه التقطتا شظية جليد قربه — مجرد قطعة حادة، باردة، لكنها كانت أكثر من ذلك.
ظهرت عيناه سوداء، كأنما فقد الوعي تمامًا، وكأن الوجود كله قد اختفى من حوله.
لم يكن يدري ما يحدث. الزمن توقف. الأصوات تلاشت.
ثم، انقضت الغريزة.
من أعماق جسده، شعور وحشي دفعه. شعور لا يرحم، لا يهتم. شعور لا يعرف سوى البقاء.
أصبحت عيناه كلها سوداء، بلا ملامح، بلا رحمة.
لكن الشظية التي بين أصابعه لم تكن كقطعة جليد عادية.
تحت أصابعه، تموجت… تنفست… تمددت.
كانت تتحول. تتحول إلى شيء أعمق، أكثر وحشية.
رمح مسنن، رمح من الجليد الاسود. الذي تلوث بهالته.
لم يفكر. لم يحلل.
فقط غريزة البقاء، الفزع القاتل الذي دفعه للأمام.
اندفع كالسهم..
وأطلق صوت صراخا غير بشري.
كانت عيناه سوداوين، بلا قاع، بلا ضوء.
حركة واحدة — طعنة واحدة — تمزق بطن أول مهاجمة.
الصوت الذي خرج منها لم يكن صرخة بشرية، بل فحيح حيوان مذبوح.
انهارت على الجليد، لا حياة فيها.
لكنه لم يتوقف.
صرخات أخرى. خطوات أخرى.
رمحه دار كدوامة سوداء.
جسدٌ آخر تمزق.
دماء بلون أزرق باهت تبعثرت كزهرة جليدية فوق الأرض البيضاء.
ثالثة… رابعة… خامسة…
لم ير وجوههن. لم يسمع أصواتهن.
كل ما رآه… أهداف.
كل ما سمعه… صوت دقات قلبه الوحشي.
الأسلال، اللواتي ضحكن واستهزأن قبل لحظات، بدأن يتراجعن.
الرعب، لأول مرة، لم يكن في قلبه.
بل في قلوبهن.
وعلى العرش الجليدي، فوق كل شيء، جلست الملكة البيضاء.
أسندت ذقنها إلى يدها، وابتسمت.
ابتسامة غريبة… ابتسامة من وجدت أخيرًا شيئًا يستحق اهتمامها.
> “جميل…”
“يبدو أنني حصلت على زوج أخيرًا.”
وسط الدماء والجثث المتناثرة، وقف لين.
يتنفس ببطء، كأن كل نفس يأخذه كان يشق طريقه عبر عاصفة من الأوجاع.
يداه ترتجفان، تلمعان بلون أزرق غامق. يده التي كانت مجرد جزء من جسده أصبحت الآن مسكونة بشيء آخر، شيء غريب، شيء غيره.
وعيناه… لم تكونا عينَي إنسانٍ بعد الآن.
كان شعورًا غريبًا. شعور ثقيل مثل الجليد، ولكن مرير كالنار. لقد قتل شخصًا لأول مرة.
كان يعلم، حتى في أعماق نفسه المظلمة، أن ما فعله كان ضروريًا للبقاء… لكن الشعور الذي اجتاحه لم يكن فقط الألم أو الندم، بل كان شيئًا أكبر، شيئًا متغيرًا.
هل هو حقًا ذلك الذي كان يشعره؟ هل أصبح جزءًا من شيء آخر؟ هل تحولت روحه إلى جزء من هذا العالم البارد؟
لم يكن يعرف. كان الأمر مجرد فوضى.
لكن، في تلك اللحظة، بين رائحة الدم ونظرات الموت، شعر بشيءٍ غريب ينمو داخل قلبه.
هل هذا هو الثمن؟ الثمن الذي يجب دفعه للبقاء على قيد الحياة؟
وسط الزمن المتوقف، وقفت عدة أميرات من الأسلال على حافة الحلبة.
كُنَّ يحدقن به بعينين جائعتين.
إحداهن، بشعرٍ فضي يلمع كالنجوم وعينين من عقيق أزرق، مالت برأسها قليلًا وهمست:
> “هذا الفتى… لي.”
بجانبها، أخرى ذات شعر ذهبي شاحب، ابتسمت ابتسامة حادة كالشفرة:
> “ستموتين إن ظننتِ أنك ستأخذينه قبلي.”
ثم ظهرت ثالثة، بشعر أسود كالليل وعينين خاليتين من الرحمة،
خطت إلى الأمام ببطء، كأن الأرض تتجمد تحت قدميها:
> “كُفّوا عن الثرثرة. حين ينزف، سنرى من ستأخذه أولًا.”
سرت همسات بين الأميرات. نظرات تتطاير. شرارات خفية اشتعلت بينهن.
صراع يوشك أن ينفجر — لا على أرض القتال، بل على قلب المذبحة، على ذلك الفتى الوحيد الذي تجرأ أن يسفك دماءهن.
لكن قبل أن تتحول الهمسات إلى معركة…
ارتجف الهواء.
بردٌ أشد من الموت اجتاح الساحة.
في علو العرش الجليدي، تحركت الملكة البيضاء.
بنعومة قاتلة، نهضت من مقعدها، أزاحت شعرها الحريري عن كتفها، وحدقت بهم جميعًا — بنظرة جعلت الثلوج تتصدع.
ثم أعلنت، بصوتٍ لا يقبل عصيانًا:
> “هو لي.”
“ملكي أنا وحدي.”
“ومن تجرؤ على مد يدها نحوه… ستُدفن تحت نيفارا إلى الأبد.”
سكن الجميع.
الأميرات، المحيط، الهواء نفسه…
كل شيء انصاع أمام قوة إعلانها.
لين، وسط الفوضى والدم، وقف وحيدًا…
لكنه أدرك، للمرة الأولى، أنه وقع في قبضة شيء أعظم من مجرد صيد أو مطاردة.
وقع في قلب عاصفة لا ترحم.
MANGA DISCUSSION