الفصل الحادي عشر: الجَمال، والسيوف، والبيروقراطية
كانت ممرّات الإقطاعية هادئة، مصقولة، ونظيفة على نحو غير طبيعي—وكأن الغبار نفسه تلقّى أوامرًا بالوقوف في حالة استعداد.
كان ليون يمشي صامتًا، وقع خطواته على الحجر يتردد بخفة، يقوده ذلك الحارس نفسه الذي بدا وكأن هوايته الوحيدة الوقوف باستقامة والتحدث بكلمات مقتضبة. لكن ليون لم يكن منصتًا للحارس. فقد كان يسمع الهمسات خلفه.
مرّت خادمتان منشغلتان بالتنظيف. أرسلت إحداهن إليه نظرة سريعة احمرّ وجهها بعدها، ثم انحنت نحو الأخرى وهمست بصوتٍ غير خفي: “إنه لطيف جدًّا…” “ذلك الشعر—هل رأيتِ عينيه؟”
تنهّد ليون في داخله، وأكمل السير بوجه خالٍ من التعبير بقدر نفاد صبره. لم يكن “يجهل” مظهره. يتذكر المرّة الأولى التي رأى انعكاسه في بركة ساكنة—شعر فضّي أبيض، بشرة باهتة، وعينان كعاصفة ثلجية تعلّمت كيف تحدّق. لقد أدهشه المشهد حقًّا. بدا كأمير ملعون من حكاية أطفال.
فكّر ساخرًا: “بالفعل ربحتُ يانصيب الجينات هنا… لكن ما زلت بانتظار أن تلحق بي قوة الجسد.”
مرّ بخادمتين أخريين، ضحكات مكتومة تتبعه. بل سمع إحداهن تهمس: “سماويّ.”
كاد يطلق زفرةً مسموعة. “سماويّ… رائع. أبدو كأنني شخصية جانبية في أسطورة، خُلقت فقط لتموت بشكل درامي.”
ومع ذلك لم يُبطئ خطواته. كلما زاد التحديق، ازداد حرصه على الوصول سريعًا إلى حيث تنتظره سيرافين. لأن الشيء الوحيد الذي يثق به أقل من النبلاء… هو “الانتباه”. وكان ينال منه أكثر مما يطيق مؤخرًا.
فتح الحارس باب مكتب سيرافين، فدخل ليون وهو معتاد بالفعل على المكان—جدران حجرية تغطيها الخرائط، نوافذ عالية تسمح لضوء الصباح الباهت بالتسرّب، ومكتب مصقول ضخم يجعل ما حوله يبدو صغيرًا.
جلست القائدة سيرافين فاييل خلفه، تستعرض الوثائق وريشة الكتابة في يدها، نصف درعها ما زال عليها كأنها تعيش دومًا على حافة الحرب والإدارة. رفعت رأسها، التقت عينيه، وأشارت بخفة: “اجلس. تَصرّف براحة.”
جلس ليون في المقعد المقابل دون كلمة. لم يتكئ أو يتراخَ، بل جلس مستقيمًا، يقظًا، يمنحها الاحترام الذي بدا أنها تنتظره. ليس خضوعًا. بل استراتيجية.
وضعت سيرافين الريشة جانبًا وأمعنت النظر فيه لحظة طويلة، ثم قالت مباشرة: “أريدك أن تنضم إلى حامية المدينة كجندي مؤقّت. وضعٌ تجريبي، لا رتبة كاملة.”
أمال ليون رأسه: “عدنا للتجنيد، أليس كذلك؟”
لم يتغيّر وجهها: “أنت موهوب. لكنك ما زلت في السابعة. لن أرسلك إلى مهام غدًا، ولا حتى الأسبوع المقبل. الأمر يتعلّق بالتدريب. بالموارد. بالمستقبل.”
ظلّ صامتًا، يتركها تكمل.
“ستحصل على عشرة فضيات أسبوعيًّا. طعام، سكن، تعليم، عتاد. كل ما ذكرته سابقًا.” انحنت قليلًا للأمام، وأصابعها متشابكة. “لكن هذه المرّة، بشكل مؤقت. اعتبرها فترة اختبار—لكلينا.”
رفع ليون حاجبه: “تجربة مبدئية إذن؟” “بالضبط. أنت تكسب قوة تحت رعايتنا، وأنا أرى مدى جديتك.”
بدا صوتها رصينًا، لكن في أعماقه كان هناك خيط من الفضول. كانت ترغب في أن ترى ما سيصبح عليه. أي رتبة ستظهر له. ما الفئة التي سيستيقظ بها في ذلك الدًّنْجِن.
لم تقلها صراحة، لكن ليون قرأها في نظرتها. تلك الشرارة خلف الانضباط.
وأضافت: “لقد أنقذت أرواحًا في غرايردج. وهذا يكسبك بعض الثقة.”
أقرّ ليون بذلك في نفسه. لم تكن مخطئة. لقد أخرجته من الجحيم، ألبسته، أطعمته، وأحسنت معاملته. أوفت بوعودها وحافظت على مسافة.
إنها تلعب لعبة طويلة المدى. تجعله يتدرّب. يعتاد. ثم تترك الراحة تقنعه. كان ذكاءً. وكان خطرًا.
لأنه بالفعل رأى نفسه يستقر هنا. لكن… لم يكن مستعدًا بعد للانتماء إلى أحد. لا مدينة. ولا حتى شخص مثلها.
مال للخلف قليلً وزفر. ليظنّوا أنه متردّد. فهو كان كذلك فعلًا. لكن القرار؟ ما زال قراره.
لم يُجب ليون على الفور. حدّق فيها مليًّا، بحذر رجلٍ يبلغ ضعف عمره وهو يزن صفقةً تحمل وعودًا كثيرة وخيوطًا أكثر. نقر بأصابعه على ذراع المقعد مرة واحدة، ببطء، ثم زفر وانحنى إلى الأمام.”حسنًا،” قال.
“سأنضم.”
ارتفعت حاجبا سيرافين—لا بدهشة، بل برضا هادئ. لكن ليون رفع إصبعه: “لكن لنتّفق على شيء—هذا لا يجعلني جنديّك. ليس بشكل دائم. أنا أوافق على الفترة التجريبية، لا على قسمٍ أبدي.”
توقّف قليلًا. صوته لم يتغير، لكن تحته حديدٌ صلب: “سأتدرّب. سأتعلم. سأقوم بدوري. لكن إن ظننتِ أنني سأصبح تابعًا وفيًّا فقط لأني أحب الطعام… أعيدي التفكير.”
درست ملامحه بصمت. لم يتكلما لوهلة. ثم أومأت ببطء: “مفهوم.”
لقد فهمت. فالفتى ذو الشعر الأبيض والعيون الفضية، الحادّ اللسان والواعي كالرجل بثلاثة أضعاف عمره، لم يكن ليسجن. لا باللطف. ولا بالذهب. ولا حتى بالعرفان.
لكن ذلك لم يقلقها. فالقائدة سيرافين فاييل تجيد لعب الألعاب الطويلة، وهذا لم يكن عن قيود. بل عن روابط. روابط تُبنى على الثقة.
وربما… على أشياء أخرى. مثل رغبتها المكبوتة في مدّ يدها و”قرص وجنتيه المبالغ في كمالهما.”
كتمت تلك الرغبة بصرامة فارس متمرّس. لكن بالكاد.
قالت لنفسها: إنه مجرد طفل. طفل يبدو كدمية منحوتة من الثلج وضوء القمر. توقّفي عن التحديق. أنتِ قائدة، لا خالة مُدلِّلة. ومع ذلك، أصابعها ارتعشت للحظة فوق سطح المكتب.
لم يسبق لسيرافين أن قدّمت عرضًا دون معرفة النتيجة. لم يكن ذلك من طباعها. لكن ليون… كان ورقة جامحة. رهانًا. رهانًا أصبحت ممتنّة له الآن.
وفكّرت: وإن كنت سأدرّب أحدًا شخصيًّا، فليكن الأشدّ موهبة… والأشدّ إرباكًا… والأكثر جاذبية كمتدرّب قد ترميه الأقدار في طريقي. موهوب… ووسيم؟ هذا قريب جدًّا من حلم متحقق.
أما ليون، غير مدرك لمعركة “التدليل” المشتعلة خلف عينيها، فقد شبك ذراعيه وقال متمتمًا: “فقط لا تتوقعي أن أناديكِ ‘سيّدتي’ أو ما شابه.”
سعلت سيرافين بخفة وهزّت رأسها بجدّية. “بالطبع.” ليس بعد، على الأقل… فكّرت.
في ذهنها، راحت تتخيّل المشهد: جلسات تدريب مع الفجر. تصحيح أوضاع السيف بيديها. “عقوبات” خفيفة على تعليقاته الساخرة. تلميذ صغير متجهّم يرفع عينيه إلى السماء كلّما حاولت احتضانه—لكن في أعماقه لم يكن يمانع.
وجهها بقي جامدًا كما اعتادت، سنوات القيادة لم تسمح بضعف ظاهر. لكن لو كان لضبط النفس شجرة مهارات، لكانت قد وصلت بها إلى أقصى مستوى.
بكل وقار، قالت ببساطة: “سيُرافقك الحارس إلى غرفتك الجديدة. داخل القصر، أقرب إلى ساحة التدريب.”
رمش ليون: “داخل القصر؟” “نعم.”
أمال رأسه قليلًا. لم يكن يتوقع ذلك. غرفة في القصر… له؟ غزت الشكوك غرائزه للحظة. لم يكن معتادًا على رفاهية كهذه إلا إذا جاءت معها قيود.
فكّر: غالبًا تريد مراقبتي… أو ضمان ألا أهرب.
ومع ذلك، أومأ بخفة: “لا بأس. ما دام السرير لن يحاول طعني ليلًا، سأدبّر أمري.”
ثم قفز من على الكرسي.
شجّعونا بتعليقاتكم يا أصدقائي، فهذا المتنفّس الوحيد الذي يدفعنا للاستمرار.
Comments
Comments are being downloaded ...
Failure to download the comments.Please re -download the page.