الفصل العاشر: دَسكمور، المدينة الجديدة
لم تكن دَسكمور تفوح منها رائحة العفن. وحده ذلك كافٍ ليجعل ليون مرتابًا.
كانت أكبر بكثير من “غرايردج”؛ شوارع حجرية واسعة، أبراج مراقبة ترفرف منها رايات نظيفة لا تشي بالهزيمة، وأناس يمشون دون خوف دائم من طعنات الأزقة.
ركب ليون خلف سيرافين، يمسك السرج بخفة، وعيناه تجولان في كل مكان. حُرّاس البوابة أدّوا التحية لها فور أن وقعت أعينهم عليها. بلا تردّد، بلا أسئلة عن الطفل المتشبّث بظهرها. فقط احترام وخضوع. حتى عامة الناس وقفوا جانبًا أو انحنوا وهم يفسحون الطريق.
نعم… لم تكن مجرّد قائدة. كانت “القائدة”.
قال ليون ساخرًا وهو يميل نحوها: “هل تلقين هذا الاستقبال في كل مكان، أم أن دَسكمور فقط تقول: رجاءً لا تقتلينا؟”
لم تُجب، ولم تحتج أن تجيب. فالمدينة بأكملها أجابت عنها.
دخلوا من بوابة يحرُسها أسدان حجريان منحوتان بإتقان، حتى ليون كاد يتخيّل أنهما سي blinking. المباني هنا أنظف وأقدم، شامخة بفخر صامت. ثم ظهر القصر.
أو لعلّه حصن. إقامة القائدة التصقت بجدار الجرف الشمالي؛ نصفها قصر، نصفها حصن عسكري. أبواب حديدية ضخمة، طريق حجري تصطف على جانبيه شجيرات مشذبة، ورماة متخفّون في الطابق الثاني.
فكّر ليون ساخرًا: “رائع. لا شيء يقول ‘أهلًا وسهلًا’ مثل القناصة على الأسطح.”
ترجلوا في الباحة، وأعطت سيرافين اللجام لأحد الخدم دون أن تتفوّه بكلمة. قفز ليون بخفة من على السرج، يهبط على قدميه برشاقة.
اقتربت منه خادمتان بزيّ نظيف وابتسامات متوترة. قالت إحداهما وهي تنحني قليلًا: “سيدي، لقد أمرتنا القائدة أن نُعدّ لك حمامًا وثيابًا جديدة.”
رفع ليون حاجبه: “رائع. أولًا الحساء، والآن يوم في المنتجع. أنا أعيش الحلم.”
لم يفهما المزاح، فانحنتا مرة أخرى وقادته إلى الداخل.
الحمام كان واسعًا بما يكفي لإغراق مؤامرة فيه. البخار يتصاعد مثل أشباح، ورائحة اللافندر وشيء ثمين آخر هجمت على ليون كهجوم فاخر. غسل عن نفسه الدماء والأوساخ وبقايا العفاريت، وكأنّه لا ينظّف جسده بقدر ما يحذف ملفًا كاملًا من الذاكرة.
وحين خرج ملفوفًا بمنشفة، وجد الخادمات بانتظاره، يحملن ثيابًا نظيفة من قماش ناعم فاخر، بلا بهرجة. ارتداها سريعًا، فالتفتت الأنظار نحوه.
شهقت إحداهن، وأسقطت الأخرى المنشفة من يدها.
“شَعره… أبيض كالثلج!” “وانظرن إلى عينيه! كأنها ضوء القمر!” “إنه جميل… أشبه بدمية.”
رمش ليون بدهشة. لم يكن قد سرّح شعره حتى. نظر إلى المرآة، فرأى شعرًا أبيض لامعًا، وعينين فضيتين، وبشرة نقية. بدا كالملاك. أو ربما كطفل من نسل الإلف يوزّع الأحكام بصمت.
فكّر ساخرًا: “رائع. من قاتل العفاريت إلى لوحة متحركة. بالوتيرة هذه، سينتهي بي الأمر مختطفًا من قِبل النبلاء قريبًا.”
طرق خفيف على الباب قطع شروده. قالت إحدى الخادمات: “لقد استُدعيت إلى غرفة القائدة.”
تنهد ليون: “حسنًا، لنرَ إن كنت سأتلقى الشكر… أم الاعتقال… أم التجنيد.”
قادته الممرات الحجرية إلى غرفة القائدة. كانت غرفة واسعة بلا إسراف، كل شيء فيها وظيفي. نافذة كبيرة تطل على الجدار الشمالي، وأشعة ذهبية تسقط فوق رفوف تزدحم بالكتب والخرائط، وجدار تزينه خرائط أخرى مثقوبة بالدبابيس وملاحظات بخط اليد. زاوية تضم حامل أسلحة مصقولة، ومكتب ضخم تكدست فوقه أوراق في فوضى منظّمة.
وقفت سيرافين خلف المكتب، لا تزال ترتدي جزءًا من درعها، وسيفها مسنود إلى الحائط بجانبها. دخل ليون، وأُغلق الباب خلفه.
بدأت مباشرة دون مقدمات: “أنت موهوب،” قالت بصرامة. “ولن أتظاهر بغير ذلك. ولهذا السبب لا أستطيع أن أدعك ترحل.”
رفع ليون حاجبه: “أين ذهبت عبارة: شكرًا لإنقاذك المدينة، أيها الفتى، وهذه سلة فاكهة؟”
لم تبتسم. قالت بجدية: “أريدك أن تنضم إلى جيش دَسكمور الدائم.”
رمش ليون بدهشة: “مباشرة إلى التجنيد؟ ألن يكون هناك عشاء أولًا؟”
أجابت ببرود: “رغم أنك لم تتجاوز السابعة، فقد قاتلت كمن خبر الحرب ونجا منها. لو انضممت، فلن تُلقى مباشرة في الصفوف. ستُدرَّب أعوامًا، فبدنك ضعيف كالغصن. لكنك ستحصل على رتبة أساسية، مع تدريب خاص وسلاح وموارد: عشرة فضيات في الأسبوع، غرفة خاصة، شركاء تدريب، طعام وحماية. وحين تصبح مستعدًا…”
أشارت إلى لفافة على مكتبها، مختومة بختم معقد. “ستُقاد إلى صحوة الفئة الخاصة بك.”
قطّب ليون حاجبيه، فتابعت تشرح بهدوء: “توجد في القارة أبراج تُسمى أبراج الصحوة. كل شخص، حين يبلغ أو يثبت أهليته، يُسمح له بدخولها. إن اجتازها، استجابت روحه واكتسب فئة… ليست لقبًا فقط، بل طريقًا: قوة، مانا، مهارات، قدرة على النمو.”
ثم أردفت: “إنها الطريقة الوحيدة لاستخدام المانا. من دونها، ستظل عاديًا. ذكيًّا نعم، لكن محدودًا. وفي هذا العالم، المحدودون يموتون أولًا.”
ظلّ ليون صامتًا. ثم اتكأ على الجدار وقال ساخرًا: “خطاب إعلاني ممتاز. هل تمرّنت عليه؟”
لم تجب. ابتسم ابتسامة حادة وقال بوضوح: “أقدّر العرض… حقًا.”
قالت: “لكن؟”
قال بابتسامة لا تخلو من التحدي: “لكنني لست مهتمًا بالقَسَم أو الولاء أو ختم جبيني بعبارة: مِلْك دَسكمور.”
ارتفع حاجبها قليلًا. فأضاف: “سأنضم كمرتزق. بعقد، لا كجندي. تستدعيني حين يناسب الطرفين.”
قالت: “تريد المزايا من دون القيود.” قال: “أريد الحرية… والخيارات.”
لم تغضب، بل أعادت تقييمه بعينيها. هذا الطفل ذو الشعر الأبيض والعينين الفضيتين، يحمل في وقفته خبرة تفوق عمره.
عادت إلى مكتبها وقالت بنبرة محايدة: “مرتزق إذن… لكن لذلك تعقيدات.”
ابتسم ليون: “وكذلك تجنيد طفلٍ لا يريد سوى النجاة.”
التقت عيناها بعينيه، لا غضب فيهما بل فهم صارم. ثم قالت: “سأفكر بالأمر.”
فردّ وهو يولي ظهره نحو الباب: “جيد. أخبريني قبل أن تطبعي اسمي على أي زيّ رسمي.”
مضت ثلاثة أيام. ثلاثة أيام كاملة من معاملة أشبه بالملكية: طعام ساخن ثلاث مرات يوميًا، ثياب نظيفة، سرير ناعم بلا رائحة عفن أو يأس.
بالنسبة لمعظم الناس، كان ذلك جنة. أما ليون؟ فكان يراه مريبًا. فكر في نفسه: “الكرم بهذا الشكل دائمًا خلفه خيوط… إن لم تكن حبالًا.”
ومع ذلك لم يمنعه ذلك من الاستمتاع بالطعام. حتى أنه في اليوم الثاني تمتم وهو يتذوق: “هل هذا… زيت الكمأة؟” ثم صفع نفسه فورًا لكونه يعرف ماهية زيت الكمأة.
لكنّه لم يسمح للراحة أن تجعله غافلًا. كان يتدرّب كل صباح قبل الفطور: اندفاعات، تدريبات خنجر، خطوات سريعة في حدود غرفته الضيقة. كان يدفع نفسه أكثر من أي وقت مضى، لا من أجل المهارة فقط، بل من أجل القوة.
سرعته وخفّته أنقذت حياته في هجوم العفاريت. لكن القوة؟ هي الفارق بين النجاة… والانتصار.
لم يجرؤ على استخدام ساعة الرمال البُعدية هذه المرة، فهي تلمع كأثر ملعون يسهل فضحه. فبقي التدريب بسيطًا: عرق، وجع عضلات، وإصرار.
وبحلول اليوم الرابع، لم تعد ساقاه ترتجفان أثناء التمارين، ويداه غلظ جلدهما من كثرة القبض على السلاح، وذراعاه صارتا أكثر صلابة. لا يزال طفلًا في السابعة… لكن لم يعد يشعر بالهشاشة.
مع بزوغ فجر اليوم الرابع، جاء الطَرق. فتح ليون الباب، فوجد الجندي نفسه واقفًا. قال بصوت جاف: “القائدة تطلبك.”
حرّك ليون كتفيه، وعدّل خنجرَيه عند خاصرته، ثم أومأ. عاد إلى اللبؤة المكسوة بالفضة. وحان وقت معرفة ما تريده… هذه المرة.
ــــــــ
شجّعونا بتعليقاتكم يا أصدقائي، فهذا المتنفّس الوحيد الذي يدفعنا للاستمرار.
Comments
Comments are being downloaded ...
Failure to download the comments.Please re -download the page.