الفصل التاسع: لقاء مع هيلينا باركر (2)

 

منظور الراوي (الغائب)

قالت ميكا وهي تحدّق بعينيها نحو هيلينا:
“اذكري سبب زيارتك، أيتها الحقيرة.”

 

ردّت هيلينا متجاهلة شتائم ميكا:
“سمعت أنّ لديكِ تلميذاً، فجئتُ لأراه بنفسي؛ من استطاع إقناع العظيمة ميكا أمامي بقبول تلميذٍ لها؟ لقد أثار ذلك فضولي كثيراً.”


توقفت هيلينا بضع لحظات ثم تابعت:
“كما أنّني سمعت أنّ عنصر تلميذك هو الكهرباء، ويمكنني أن أمنحه بعض التوجيهات.”

 

“….”

بعد سماع تفسيرها، بقيت ميكا صامتة لبرهة، ثم قطبت حاجبيها وسألتها بحدة:
“من أين حصلتِ على تلك المعلومة أيتها الحقيرة؟ يبدو أنّ نقابات المعلومات أصبحت جريئة أكثر مما ينبغي، ولا أظن أنّ هذا العالم بحاجة إليهم.”

 

قالت ميكا بوجه متشنّج…

 

قهقهت هيلينا عندما لاحظت ملامح ميكا الملتوية وأجابت:
“هل قلتُ إنّني حصلتُ على هذه المعلومة من نقابات المعلومات؟”

 

“هاه؟!”

 

زمّت ميكا حاجبيها مطالبةً بتفسير.

 

لكن هيلينا لم ترغب في الشرح، فاكتفت برفع إصبعها مشيرةً نحو إيجيس.

 

وبمجرّد أن وقعت أنظار ميكا وآريس على إيجيس، ارتجفت بخوف وصارت محطّ الأنظار فجأة، وأصدرت صوتاً صغيراً يشبه الصرخة.

 

“هاااه!!”

 

ضيّقت ميكا عينيها نحو إيجيس وقالت:
“ما معنى هذا يا إيجيس؟ فسّري سبب وجود هذه الحقيرة هنا.”

 

ارتبكت إيجيس قليلاً ثم تمالكت نفسها وأجابت بعدما تنحنحت:
“أحم… دَعيني أشرح. بما أنّكِ سترحلين غداً في مهمة عمل، فكّرت أنّه من الأفضل أن يعمل آريس على تطوير قدرته في التحكم بعنصره. وبما أنّ هيلينا مستخدمة لعنصر الكهرباء مثله، ألا تظنين أنّها ستكون المعلمة المثالية له؟”

 

صُدمت ميكا من هذا التفسير وصاحت:
“ماذاااا!!”

 

أعادت بصوتٍ غاضب مؤكدةً:
“أتريدين…” ــ وأشارت بإصبعها نحو هيلينا ــ
“…تلك الحقيرة أن تصبح مُعلمةً لتلميذي؟!” ــ ثم أشارت نحو نفسها بإبهامها.

 

هزّت إيجيس رأسها مرات عديدة مؤكدة وهي تصدر أصواتاً صغيرة:
“همم… همم.”

 

“….”

 

لم تجد ميكا كلمات، فوضعت يدها على صدغها وكأنها تعاني من صداع…

 

(أنتِ مجنونة… تريدين أن تسرق تلميذي الثمين منّي… نعم، ستسرقه تلك الحقيرة… عليّ أن أقتلها فحسب… نعم، كل شيء سيُحل إن قتلتها… يجب أن أفعل ذلك…)

 

كانت ميكا مطرقة الرأس، وشعرها يغطي وجهها، تتمتم بتلك الكلمات بصوتٍ منخفض وسريع كأنها آلة معطّلة…

 

منظور آريس ~

 

حين لاحظتُ الأجواء القاتمة التي أحاطت بميكا، أسرعتُ نحوها بخوفٍ من أن يقع أمرٌ خطير لو بقيت ساكنة…

 

أمسكتُ يدها اليمنى بكلتا يديّ، أناديها مراراً. لكنّها بدأت تطلق هالتها، ودوّت أصوات الشرر في أرجاء القصر.

 

صرخت بيأس:
“سيّدتي… سيّدتي! استفيقي!!”
كنت أشدّ على يدها بقوة لكنّها لم تتحرك قيد أنملة.

 

تمتمتُ بارتباك:
“الوضع خطير…”

 

نظرتُ نحو إيجيس وهيلينا لطلب المساعدة، لكن وجهي شحب عندما رأيتهما…

 

كانتا عاجزتين بفعل ضغط هالة ميكا، والدم ينزف من أنفيهما وأفواههما، وعلامات الخوف والصدمة واضحة. لم تستطيعا حتى مسح الدم، إذ تجمدت أجسادهما.

 

كانت هيلينا تعض على أسنانها محاولة تحمّل الألم، بينما بدت إيجيس أفضل قليلاً إذ لجأت إلى سحر العلاج لتخفيف الأضرار.

 

مع أنهما من المغامرات المصنّفات رتبة S، إلا أنّ الفارق بين الرتبة S و الرتبة SS شاسع…

 

العجيب أن ضغط ميكا لم يصل إليّ، وكأنها تستثنيني عمداً، ولهذا لم أتأثر.

 

حتى وهي في حالتها المظلمة، ما زالت لا تريد أن أتأذى… لا أعلم إن كان يجدر بي أن أضحك أم أبكي من هذا الوضع.

 

(هوسها بي تجاوز كل حدود العودة… في البداية ظننت أنّ بوسعي التعامل معه، لكن يبدو أنّ الأمور ستتعقّد كثيراً في المستقبل…) 

فكرتُ بحسرة.

 

نظرتُ في عينيها التي تحوّلتا إلى هاويةٍ سوداء، قادرتين على ابتلاع كل من يتجرأ على التحديق فيها.

 

هززتُ رأسي لطرد تلك الأفكار، ثم أطلقتُ عنصري الكهربائي ليغطي كامل جسدي، وانقضضتُ نحو عنقها، أحيطها بذراعي وأصرخ باسمها.

 

“ميكااا! توقفي!!”

 

صرختُ بكل قوتي، وغرستُ أسناني في عظم ترقوتها وأنا مغمور بالبرق. بقيتُ هكذا لثوانٍ قبل أن أحرر أسناني، تاركاً أثراً واضحاً وقطرات دم صغيرة تسيل.

 

(عليّ أن أنمو بسرعة… طولي الحالي يجعل الأمر محرجاً جداً) فكرتُ وأنا أتمسّك بها.

 

ارتجفت ميكا فجأة واستفاقت من غيبوبتها. وخلال ثوانٍ تلاشى الضغط وعاد الجو إلى طبيعته… عمّ الصمت القصر بأسره.

 

ما زلتُ ممسكاً بها، لكنها بادلتني العناق بيدها، فيما أخذت تمسّد شعري بالأخرى.

 

قطعت إيجيس الصمت فجأة، اندفعت نحونا بدموعٍ غزيرة، تعتذر مراراً لميكا وهي تبكي كبنت صغيرة لا تناسب هيئتها الناضجة:

“آسفة ميكـااا… أنا آسفة جداً جداً! وااااه… بسببي! وااااه…”

 

“….”

 

(كم عمرك؟ 12؟) تمتمتُ في داخلي.

 

لم يكن يُسمع سوى نحيبها في أرجاء القصر، مشهداً لم أره منها من قبل.

 

توقفت ميكا عن مداعبة شعري لتضم إيجيس بذراعها، محاولة تهدئتها.

 

وبقينا هكذا حتى خف بكاء إيجيس. بعدها، أفلتتنا ميكا أخيراً، ثم التفتت نحو هيلينا الجالسة على الأرض، تمسح دم وجهها بأكمام سترتها، شاردة الذهن لا تلقي لنا بالاً.

 

كان مظهرها الأنيق والمهيب عند دخولها قد تبخر تماماً… لكنها، رغم ذلك، بدت فاتنة في تلك الوضعية.

 

هززتُ رأسي مستعيداً وعيي حين سمعتُ صوت ميكا تصرخ:
“أيتها الحقيرة!”

 

ارتبكت هيلينا وأجابت متلعثمة:
“مـم.. ماذا؟”

 

قالت ميكا بحدة:
“سأسمح لكِ بتدريب تلميذي، لكن عليكِ أن توافقي على بعض شروطي.”

 

حدقت هيلينا بها لبضع ثوانٍ، ثم نهضت ببطء وقالت:
“حسناً.”

 

بعدها غادرت ميكا برفقة هيلينا نحو قاعة التدريب لمناقشة التفاصيل، تاركتينني مع إيجيس وحدنا وسط الزجاج المحطم، والأثاث المكسور، والأرضية المتشققة… وإيجيس محمرة الوجه تتفادى النظر إليّ بخجل.

 

ساد الصمت بيننا لثوانٍ، إذ لم ينطق أيٌّ منّا بكلمة. كنتُ أشعر بالحرج أنا أيضاً، لكنني أخفيته.

 

قطعت إيجيس الصمت قائلة:
“لا تهتم بهما… فهما دائماً على هذا الحال.”

 

“هاه؟” أصدرتُ ذلك الصوت بلا وعي، مرتبكاً من قولها. لم أقرأ شيئاً في الرواية عن وجود علاقة بين ميكا وهيلينا.

 

ولاحظت إيجيس حيرتي فأوضحت:
“قد لا يظهر ذلك، لكن ميكا وهيلينا صديقتان منذ الطفولة، خاضتا معاً مواقف حياةٍ وموت منذ كانتا صغيرتين. قد يبدو أنهما تكرهان بعضهما، وأن موت إحداهما لن يعني للأخرى شيئاً… لكن الحقيقة عكس ذلك. لو وقع أمر سيء لإحداهما، ستكون الأخرى أول من يهبّ لمساعدتها.”

 

نظرتُ إليها بعينٍ مشككة، فما رأيته بينهما لا يوحي بوجود صداقة.

 

“….”

 

لكن إيجيس واصلت قائلة:
“قد يبدو هذا مبتذلاً، لكن استمع… قبل بضع سنوات أصيبت ميكا بجروح بالغة أثناء القضاء على جماعة إرهابية، وتعرّضت لكسور عديدة وأنا من تولّى علاجها. في ذلك الوقت لم تكن بالقوة التي هي عليها الآن. عندما علمت هيلينا بالأمر ورأت حالتها، استشاطت غضباً، فجمعت المعلومات عن مواقع تلك العصابة واقتحمت مقرهم، لتبيدهم بالكامل. كانت أقوى من ميكا في ذلك الحين، لكن سرعان ما تجاوزتها ميكا وأصبحت كائناً متسامياً، وقد أنقذت هيلينا مراراً أيضاً. لكن صداقتهما توترت بعدما انضمت هيلينا إلى تلك المنظمة لأسباب شخصية، ورفضت مساعدة ميكا. منذ ذلك الحين، لم تعد ميكا تناديها باسمها، بل بـ (الحقيرة).”

 

تنهّدت بعد أن أنهت كلامها:
(يا لها من حكاية طويلة… كم تحب إيجيس الإطالة حين تبدأ بالحديث).

 

وبعدما أدركت خجلها، انسحبت مسرعة لتخفي وجهها، تاركة إياي وحيداً في الممر.

 

“….”

 

رحتُ أراقب غروب الشمس من خلال النوافذ المحطمة.

 

(يا له من يوم… شهدت الكثير من اللحظات المحرجة لكل من ميكا، إيجيس، وهيلينا…) ابتسمتُ في داخلي وغادرت القاعة بهدوء.

 

 

التعليقات