
الفصل 21: أسطورة إيفيكا ليفينغستون
ما إن أزاحت إيفيكا ذلك الضباب الأبيض الذي كان يلفّ ملامحها كستار سماوي، حتى تجلّى جمالها البهيّ أمام ناظريّ، جمالٌ يملك القدرة على إشعال حربٍ بين الممالك. لم يكن ما قيل عنها في الروايات مبالغة؛ بل حقيقة تتجلّى للعيون كوليمة من النور.
استجمعتُ أنفاسي بعد لحظة من الذهول وسألتها:
“إذن، تريدين مني أن أساعدك في الحصول على ثمرة التعزيز؟”
أومأت برأسها، وعيناها تلمعان بجدية:
“نعم… فأنا لا أملك الكثير من الوقت.”
بادلتها الإيماءة بصمت، والسرّ الأعظم يطلّ برأسه… إيفيكا ليفينغستون ليست إنسانة خالصة، بل خليط مستحيل: نصف إنسانة، نصف تنين.
إنه اتحاد يناقض قوانين الطبيعة، إذ لا تحتمل امرأة بشرية جنينًا من نسل التنانين، ولا يقوى رجل بشري على غرس نسله في رحم أنثى من سلالة النار والمجد، فضلًا عن كبريائهن الذي لا يسمح لهن بالارتباط بمن هو أدنى منهن قوة.
فكيف إذن وُلدت هذه المعجزة؟
الجواب يكمن في والدها… رجل أسطوري استطاع ما عجزت عنه الأمم: ترويض أنثى تنين متعجرفة، والظفر بذرية منها. ومن ذلك الاتحاد المحرم وُلدت “إيفيكا”؛ الكيان الفريد الذي قد يكون الأول والأخير في هذا العالم.
غير أنّ المعجزة وُلدت مثقلة بلعنة… قلب تنين نابض في جسد بشري هش. ومع كل يوم يمر، يزداد فيضان المانا داخلها، حتى يأتي وقتٌ يعجز فيه جسدها البشري عن الاحتمال… فتفنى.
لكن هناك أمل يتيم… ثمرة أسطورية تُعرف بـ “ثمرة التعزيز”، كنز من خيال الآلهة، قادر على صقل الجسد ليتجاوز حدوده البشرية، ويعلو به إلى مقامٍ يليق بمجاراة قلب التنين.
نظرتُ إليها بجدية وقلت:
“أوافق على اتفاقنا… لكن الحصول على تلك الثمرة قد يستغرق وقتًا. فهي لا تُباع في الأسواق ولا تُعرف مواعيد ظهورها، والحديث عن المستقبل جريمة قد تجلب علينا وبالًا.”
ابتسمت بإصرار وأجابت:
“لا بأس… فقط أخبرني حين تحتاج إلى معونتي.”
نهضت، واقتربت بخطوات ثابتة، فالتقت يدانا في مصافحةٍ ختمت العهد بيننا.
قلتُ بجدية:
“سأعتمد عليكِ يا إيفيكا.”
فابتسمت ابتسامة تضاهي نور القمر وقالت:
“وأنا أيضًا يا أريس، رجاءً اعتنِ بي… ونادِني دين، فهذا هو اسمي الحقيقي.”
قهقهتُ بخفة وقلت:
“لكن وفق حساب أعمار التنانين… ما زلتِ مراهقة صغيرة.”
توسعت عيناها صدمةً من كلماتي، ثم ما لبثت أن غطّت فمها بيدها وأطلقت ضحكة بلورية هزّت المكان حتى اغرورقت عيناها بالدموع. قالت بعدها:
“معك حق… لكن لا تنسَ أنني نصف بشرية!”
عجزت عن الرد، فكيف يحكم على ما لا سابقة له؟ أأعتبرها راشدة في الثامنة عشرة، أم أنتظر حتى تبلغ الثلاثمائة؟ هززت رأسي مستسلمًا وقلت:
“أجل… يبدو أنك على حق.”
غادرَت بعد أن تبادلنا كلمات قليلة، وتركتني غارقًا في الأفكار.
وبينما كنتُ أشق طريقي نحو السكن المخصص لي، تمتمتُ لنفسي:
“جميل أن أجد حليفًا يعرف سرّي… ستكون ورقة رابحة في المستقبل.”
وصلت إلى مبنى ضخم يشعّ فخامةً، أشبه بقصر مخصص للنخبة. دخلتُ إلى قاعة الاستقبال، فاستقبلتني سيدة في منتصف العمر،
ذات ملامح وديعة وأناقة راقية. ابتسمت وقالت باحترام:
“أيها السيد أريس، غرفتك في الطابق الرابع. إنها الأوسع بين جميع غرف طلاب السنة الأولى، خُصصت لك لتصدرّك التصنيف. إن رغبتَ بأي تعديل أو خدمة، فأنا رهن إشارتك.”
مدّت إليّ بطاقة الغرفة، فنظرت إلى الرقم [21] المدوّن عليها، ثم مضيت عبر الممر الفخم. الأضواء الذهبية كانت تنثر الدفء كأنني أمشي في نهار أبدي، والسجاد الأحمر امتد كطريق ملكي يقودني إلى المصعد.
صعدت إلى الطابق الرابع، وحين خرجت وجدت الممر يتفرع يمينًا ويسارًا. اخترت اليمين حتى وقفت أمام بابٍ يحمل الرقم [21].
مررت البطاقة، فتلألأ المقبض بلون أخضر، وسمعت الطقطقة المميزة.
دفعت الباب… وإذا بي أُبهر بما رأيت.
نافذة عريضة تغمر المكان بضوء الشمس، أرائك بيضاء نقية، مطبخ مجهّز بأدوات براقة. بدا وكأنني عبرت من أزقة الفقر إلى قلب العاصمة المزدهرة.
اتجهت إلى غرفة النوم، حيث سرير أبيض ضخم يتوسط المكان، لكن عيناي انجذبتا إلى باب جانبي. فتحته، فانطلقت نسمة باردة كأنها نَفَسُ الجبال.
هناك… وجدت قاعة تدريب فسيحة، ضعف مساحة غرفة المعيشة. على جانبها الأيمن أثقال وأجهزة، وعلى الأيسر جدران وأرضية صُممت من مادة تمتص الصدمات.
ابتسمتُ بارتياح، وغمرتني نشوة خفية.
هذا المكان سيكون ساحتي الخاصة… حيث أصقل سيفي وأُجرّب كل تقنياتي بعيدًا عن أعين الآخرين.
منصف
التعليقات