الفصل الأوّل: البدايات المظلمة
جالسًا على سريرٍ في المستشفى، كان رجل ذو شعرٍ حالك السواد وعينين خامدتين غارقًا كليًّا في مطالعة كتابٍ قرمزي بلا عنوان. لقد انغمس في قراءته إلى حدّ أنّه فقد الإحساس بالوقت. وفي النهاية، انتزع عينيه على مضض من الصفحات الآسرة، وألقى نظرة عبر النافذة نحو شمسٍ مشرقة في الأفق. ثم أغمض جفنيه وأطلق تنهيدة متعبة وهو يهمس بصوتٍ خافت:
“إنّه كتاب مذهل حقًّا…”
وبينما أخذ استراحة قصيرة من القراءة، لمح ظرفًا قد انزلق من بين صفحات الكتاب. أثارت هذه الملاحظة فضوله، فمدّ يده والتقط الظرف ثم فتحه. في داخله وُجدت ورقة سوداء كُتبت عليها رسالة بمدادٍ أحمر قانٍ.
وما إن وقعت عيناه على الكلمات، حتى اعترى جسده قشعريرة ورعبٌ مفاجئ، فتوقف عن القراءة لوهلة محاولًا استجماع أنفاسه. أعاد قراءة الرسالة ثانية ليتأكد من أنه لم يخطئ الفهم. حاول أن يهدّئ نفسه، متأمّلًا مصدر تلك المعلومات وما تحمله من دلالات.
ذلك الكتاب الذي كان بين يديه لم يكن كتابًا عاديًا؛ بل كان ملكًا لحبيبته السابقة، الصيّادة من رتبة S، والتي ضحّت بحياتها في مواجهة وحش من رتبة SS أثناء محاولتها حمايته خلال انهيار بوّابة كارثية. لقد أعادت تلك الرسالة فتح جراح الماضي، مثقلةً قلبه بذكريات الخسارة المؤلمة.
في هذا العالم، تُعَدّ البوابات فضاءاتٍ فوضويّة تتصل بالعالم البشري وتحتشد داخلها جحافل من الوحوش يقودها زعماء ذوو قوّة هائلة. تبقى البوابة مفتوحة إلى أن يُهزَم زعيمها، وبعد ذلك تُغلق تلقائيًّا في غضون ساعة تقريبًا. ولتقليل الخسائر في الأرواح البشريّة، يصبح من الضروري تطهير بوابات الوحوش بأسرع وقت ممكن، إذ إنّ الفشل في ذلك يؤدّي إلى انفجار البوابة، حيث تعبر الوحوش إلى عالم البشر ناشرةً الخراب والموت بين المدنيين الأبرياء.
لمواجهة هذه الكارثة، ظهر بشر يمتلكون قوى سحريّة أُطلق عليهم اسم الصيّادين، وقد تزامن ظهورهم مع اكتشاف البوابات، إذ كانوا الوحيدين القادرين على قتل الوحوش وإغلاق البوابات. ومن هنا نشأت صناعة عالميّة ضخمة تتمحور حولهم.
يُصنَّف الصيّادون وفق سلّمٍ دولي يبدأ من الرتبة E الأضعف، وصولًا إلى الرتبة SS الأقوى. وتتنوّع قدراتهم تنوّعًا كبيرًا، وينقسمون إلى صنفين رئيسيين: مقاتِلون وغير مقاتِلين. كما تنبثق عنهم ستة تخصّصات فرعيّة: المحاربون، القتلة، السحرة، الحماة، القنّاصة، والمعالجون.
أمّا صيّادو الرتبة SS فيُعَدّون نادرين إلى حدّ استثنائي، وقيمتهم لا تُقدَّر بثمن، إذ إنّ مستوى قوّتهم الروحيّة يفوق قدرة أجهزة القياس على رصده. ولا يتجاوز عددهم بضع عشرات في كلّ دولة، وبضع مئات فقط حول العالم، وذلك لصعوبة بلوغ تلك المرتبة القاصية من القوّة.
غير أنّ المعارك بين صيّادي الرتبة SS والوحوش العملاقة تترك المناطق المحيطة أطلالًا مدمَّرة، مما يجعل من العسير محاسبتهم على أي جرائم قد يرتكبونها. وينطبق ذلك على المعركة الدائرة حاليًّا بين صيّادي الرتبة SS ووحوش من ذات المستوى، والتي تمثّل تهديدًا جللًا للبشريّة إن لم تُحسَم بسرعة وحزم.
أمّا الوحش الهائل الذي كانوا يقاتلونه فكان من صنف الوحوش السحريّة، وهي نوع من المخلوقات التي تقطن داخل بوابات الوحوش. وبما أنّها واقعة تحت سيطرة زعماء البوابات، فإنّ الغالبية العظمى منها معادية للبشر.
على الرغم من مظهرها ككائنات همجيّة، فإنّ الوحوش السحريّة تمتلك مستويات متفاوتة من القوّة، ولهذا تُصنّف خطورتها ضمن النظام الدولي نفسه الذي يُرتّب الصيّادين، من الرتبة E الأدنى إلى الرتبة SS الأعلى.
وما يزيد من رهبة هذه المخلوقات أنّها قادرة على صنع معدّاتها الخاصّة، كما أنّها تملك ذكاءً لا يقلّ عن ذكاء البشر، بل إنّ بعضها قادر على التحدث بلغات البشر بطلاقة. إضافة إلى ذلك، لديها لغتها الخاصّة التي يصفها البشر بـ “لغة الوحوش” أو “قاموس المخلوقات”.
أمّا الوحش السحري من رتبة SS الذي خاضوا ضده المعركة، فقد أثبت أنه يفهم لغة البشر، وهو ما عكس مستوى من الذكاء فاق ما اعتقده الكثيرون ممكنًا لمثل هذه الكائنات.
في خضمّ تلك المواجهة المدمّرة، نجا آريس من هجومٍ قاتل بفضل تضحية حبيبته البطوليّة؛ فقد افتدت حياته بحياتها، وتصدّت للهجمة العاتية كي تحميه، رغم استحالة إيقافها تمامًا.
وبينما خرج آريس حيًّا من ذلك الجحيم، بقي معاقًا، فيما أسلمت حبيبته الروح بين ذراعيه.
لقد أعمل الوحش قوّته الساحقة فحطّم كلّ ما طالته ضربته، ولم يخلّف وراءه سوى أنقاضٍ ودخان. وكان حظّ آريس أن يعيش، إذ كان الوحش قد أُنهِك مسبقًا في قتالٍ طويل مع صيّادين من رتبة S، قبل أن تصل التعزيزات التي أنهت وجوده.
لكنّ الثمن كان فادحًا للغاية…
فقد خسر أعزّ إنسانٍ على قلبه. والأسوأ أنّها رحلت فقط لأنها وقفت بينه وبين الموت، كي لا يُصاب بأذى.
إنّه لأمرٌ موجع أن ترى الشخص الذي كنتَ تعتبره أثمن من حياتك يلفظ أنفاسه الأخيرة أمام عينيك.
على الرغم من أنّ آريس قد نجا، إلا أنّه وجد نفسه مضطرًّا للعيش مُقعَدًا، مثقَلاً بالغضب والذنب والكراهية لنفسه، إلى جانب طيفٍ من المشاعر القاتلة التي حطّمت صحّته النفسيّة.
كان يدرك تمامًا أنّه ما كان ليبقى على قيد الحياة لولا حبيبته التي ضحّت بكلّ شيء من أجله. ولهذا لم يشأ أن تذهب تضحيتها سُدًى.
فلولاها، لكان قد أنهى حياته البائسة منذ زمن بعيد.
وأثناء قراءته للمعلومة الواردة في تلك الورقة السوداء، تجمّد الدم في عروقه وانقطع نَفَسه. لقد كانت تحمل اسمه وتاريخ ميلاده… وتاريخًا آخر جعل قلبه يخفق بعنف: تاريخ وفاته، واليوم هو ذلك اليوم بعينه!
“تاريخ موتي…؟ اليوم؟”
شعر بدوار شديد، واهتزّت رؤيته حتى غشّى الضباب بصره، فأغمض عينيه وهو يحسّ بوعيه يتلاشى شيئًا فشيئًا، غير أنّ ابتسامة باهتة ارتسمت على محيّاه.
لقد اعتقد أنّ آلامه وعذاباته قد انتهت أخيرًا، وأنّ بوسعه أن يخلد إلى راحة أبدية. لم تمضِ سوى لحظات حتى فقد وعيه… وفي النهاية، مات!!!
…أو على الأقل، كان هذا ما خُيّل له…
Comments
Comments are being downloaded ...
Failure to download the comments.Please re -download the page.