الفصل 49: ما وراء الابتسامة؟
قام جوزيف وقش الغبار عن ثيابه. ثم مد يده إلى جين وساعده على النهوض.
لوح جين وجوزيف بيدهما مودعين جيهون وهما يفترقان.
«نتمنى لك حظاً سعيداً في حياتك العزوبية».
«وداعاً، جين. وداعاً، جوزيف».
مشيا نحو الملعب، حاملين حقائب بعضهما البعض. وبينما كانا يغادران، وضع جوزيف ذراعه حول كتف جين. مشيا معاً خارج أرض المدرسة.
كانت الشمس تغرب خلف المدرسة، ملونة السماء بلون برتقالي. كان الهواء يحمل رائحة خفيفة من العشب والطباشير. هبت نسمة خفيفة مرت بهما وهما يسيران بجانب الملعب.
تثاءب جين.
«مهلاً، جوزيف، انتظر. لنشترِ بعض المصاصات».
«مصاصات مرة أخرى؟ لماذا تحبها إلى هذا الحد؟».
«لا أدري. أشعر فقط أنها تمنح إحساساً بالبرودة والحلاوة الهادئة».
«حسناً، لنشترِها، يا أخي».
عبرا الطريق واشتريا مصاصتين مستديرتين من متجر صغير، واحدة بنكهة القهوة والأخرى بنكهة الكولا.
فك جين غلاف المصاصة بنكهة القهوة ببطء، وعكست عيناه ضوء الغروب الذهبي.
مشى جوزيف بجانبه، يهز حقيبته بكسل، وابتسامة لا تفارق وجهه.
وضع جين المصاصة في فمه وقدم المصاصة بنكهة الكولا إلى جوزيف.
«متى سنشاهد نهائي كأس العالم؟» سأل جوزيف.
«أعتقد أنه غداً في منتصف الليل».
«أخيراً، سينتهي الجدل حول أعظم لاعب وسندرك من الأفضل، ميسي أم رونالدو».
«لا تقلق، جوزيف. ستهزم الأرجنتين فريقك. احفظ كلامي: سيحرز لا بولغا هدفين ويصنع تمريرة حاسمة».
«لا، سيقلبها سيد دوري الأبطال، يحرز هاتريك، ويصل إلى هدفه الألف ليثبت أنه الأفضل».
«أعظم لاعب لديك انتهى أمره. شاهد كيف يعاني في دوري الجمال».
«لا يزال أفضل من تلك الدوري الأمريكي. حتى الأطفال في منطقتنا يلعبون أفضل من دوري البرغر ذاك».
«غير الموضوع، رأسي يدور» همس جين.
«حسناً، حسناً، لنهدأ» رد جوزيف.
«إذن، الامتحانات النهائية بعد أسبوعين» قال جوزيف مبتسماً. «ثم سنحصل أخيراً على عطلة الصيف».
«نعم» ابتسم جين ابتسامة خافتة. «يشعر الأمر نوعاً ما بالجمال أن الفصل الدراسي مر بسرعة».
استمرا في المشي حتى وصلا إلى تقاطع في الطريق. أحد الطرق يؤدي عبر صف من الأشجار التي تتمايل بلطف في النسيم، والشمس تتسلل بلطف بين الأوراق. كانت الأرض مغطاة ببتلات متساقطة، والهواء يحمل رائحة هادئة للأرض في نهاية اليوم. غردت الطيور بلطف فوق، وكان كل شيء هادئاً، غير ملموس من ضجيج المدينة.
أما الطريق الآخر فكان مليئاً بالسيارات والأبواق ورائحة الدخان.
دون كلام، انعطفا نحو الطريق الهادئ تحت الأشجار.
كان جين وجوزيف دائماً يفضلان السلام والهدوء.
في منتصف الطريق، وبينما كانا يتحدثان، توقّف جين فجأة. تجمّدت خطواته دون سبب.
قال بصوت خافت:
“لا أشعر بخير يا جوزيف… أشعر وكأن هذا الموقف مرّ عليّ من قبل.”
تصلّب وجه جوزيف على الفور.
“ما الأمر؟ ما الذي يحدث؟”
لكن قبل أن يتمكن من الاقتراب، بدأ ضباب أسود كثيف يلتف حول وجه جين، وكأنه يُنتزع من الزمان والوجود نفسه.
اندفعت موجة من الألم لا تُحتمل في جسده.
انفجرت عيناه بنور أعمى بصره، وامتلأ فمه بالدماء. تباطأ نبضه، ثم بدأ يخفق بجنون حتى خُيّل إليه أنه سينفجر من صدره في أي لحظة.
كأنه قد مُزق من نسيج الزمان والمكان، ومُحي من الوجود ومن كل أبعاده.
في ذلك الفراغ، كان المليار عام يمر في ثانية واحدة. توقّف العمر، وتجمّد الزمن.
حتى صرخاته التي دوّت داخله لم تستطع الخروج. الصراخ نفسه كان رفاهية لم يُمنحها.
ارتدّ الصوت داخل جسده، ممزقًا أحشاءه، دافعًا الدم إلى الخارج.
“آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه!!!!”
تسارعت أنفاس جين، صدره يرتفع ويهبط بعنف.
انتشر الألم في جسده كالنار تحت الجلد.
عظامه تكسّرت واحدة تلو الأخرى، وعضلاته التوت وانقبضت. ثم دوّى صوت الرعب منه.
انطلقت أمامه سيف من البرق الأبيض، وغرس نفسه في جسده، رافعًا إياه عن الأرض.
انفجرت الدماء من فمه.
ثم جاء سيف ثانٍ، مزّق ظهره، ثم ساقيه، ثم كتفه.
تفتت اللحم، وامتلأ الهواء بصوت شفرات البرق وهي تمزق الجسد.
حتى كل ما عاناه من قبل—منذ وُلد في هذا العالم الجديد وصار “لين”،
حتى لعنة “المهول” التي حطّمت جسده، وحتى عذاب “أوريلانا”—
كل ذلك بدا لا شيء أمام هذا الألم.
كان الألم لا يُحتمل. مجرد رؤيته كفيل أن يجعل عيون الرجال الأقوياء تنزف، وأن يقتل الأضعف في لحظة.
وجد جين نفسه داخل مكان مظلم يلفه الضباب، قبل أن يتمكن حتى من إدراك ما يجري.
صرخةٌ مزّقت حنجرته، وارتطمت ركبته بالأرض.
راح يحفر الرماد بأصابعه.
امتلأ فمه بالدم الدافئ، وأنفاسه صارت متقطعة خشنة.
تقلبت عيناه حتى لم يبقَ فيهما سوى البياض.
ضرب الألم جسده كمطرقة تحطم العظام.
تشققت أضلاعه بصوت جافّ.
تشنجت رئتاه كأن يداً من حديد تقبض عليهما.
كل نفسٍ كان يجرحه من الداخل.
طعم الدم والرماد في فمه، واللعاب والدم يمتزجان عند زاوية شفتيه.
ثم اخترق صدره سيف من البرق الأزرق، ضاربًا عظمة صدره بقوة جعلت عموده الفقري يرتجف.
للحظة ترهّل جسده تمامًا، ثم بدأ يرتجّ بعنف من التشنجات.
سُحب السيف ثم غُرس مجددًا في بطنه.
تمزق اللحم بصوتٍ رطبٍ مروّع، وتناثرت الدماء في الهواء.
“آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه!!!!!!!!!”
سيف ثالث غاص في كتفه.
انفصل وترٌ عن الآخر، وانقطع كالحبل.
تخدّر ذراعه، لم يعد يشعر بأصابعه.
ضربة أخرى أصابت فخذه، واصطدمت الشفرة بالعظم.
سمع الطحن داخل جسده، فصرخ مجددًا.
توالت السيوف البيضاء، تظهر وتختفي، تمزق ظهره وكليتيه وأحشاءه.
كل طعنةٍ كانت تدمّر شيئًا لا يمكن إصلاحه.
العضلات تمزقت، والأعضاء انفجرت، والدماء تجمعت تحته كبركة سوداء.
تقيأ، واختنق بمرارة معدته.
حاول أن يتنفس، لكن رئتَيه اشتعلتا.
نبضه تذبذب، ثم توقف للحظة.
لبرهة شعر بالعدم، بسوادٍ خالٍ من الإحساس،
ثم عاد الألم مضاعفًا، كأنه كان ينتظره في ذلك الفراغ.
لم يستطع أن يغمض عينيه.
كل رمشة كانت تحرق بصره.
انفجرت الأضواء خلف جفونه، بيضاء وحمراء، كأنها برق في ظلام ذهنه.
لم يسمع سوى أنفاسه المتهالكة وصوت جسده وهو يتحطم.
ثم، فجأة، ظهر السيف الأزرق مجددًا.
غاص في صدره وخرج من ظهره.
انفجرت أضلاعه، وانحدرت كتفاه، وشعر بشيء بداخله يُنتزع ويضيع.
ذكرياته تمزقت كأوراق تُسحب من ذهنه.
أسماء وأصوات تلاشت. حاول أن ينطقها، لكن لم يخرج سوى صرخةٍ حيوانية مبحوحة.
“آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه!”
طعنة… ثم أخرى… ثم أخرى…
كل واحدة أسوأ من الموت نفسه.
ألف موتٍ كان رحمة. مليون موتٍ كان سلامًا.
لكن هذا… كان أبعد من الموت.
كل ضربة كانت إحساسًا بموتٍ يتكرر بلا نهاية، كأنه يُقتل ويُبعث من جديد في كل ثانية.
وقف جوزيف فوقه، قبضتاه داميتان، وأسنانُه تطحن بعضها بألمٍ وكبت.
قال بصوتٍ غاضبٍ غارقٍ بالدموع:
“سيدفعون الثمن… أنا وأنت سنجعلهم يدفعون حتى آخر نفسٍ فيهم…
كل واحدٍ منهم سيتألم كما تألمت.”
مدّ يده نحو الضباب الأسود، فتدفقت من كفه أنوار بيضاء أحرقت جلده.
صعد الألم في ذراعه، لكنه لم يتراجع.
غرس يده في رأس جين، فارتدّ به الألم كأنه صُدم بشاحنة.
تقيأ دمًا من أثر جرحٍ واحدٍ من تلك السيوف.
أخذ نفسًا عميقًا، وأضاءت يداه بالنور الأبيض.
مد يده مجددًا داخل رأس جين، وسط الضباب الأسود،
فتدفقت صدمةٌ عنيفةٌ عبر جسده.
ثم، فجأة، وجد نفسه إلى جانب جين قبل أن تهوي عليه سيفٌ آخر.
“اهرب يا جوزيف!” صرخ جين،
لكن جوزيف أوقف كل شيء في ذلك العالم.
رفع يده، فتجمّد كل ما حوله.
تحطّم العالم كقطع زجاجٍ متناثرة، ووجد نفسه داخل الضباب،
والنور يتوهج بين يديه. تحرك بسرعة، وسحب جين بعيدًا عن الخطر.
وعندما عاد بصره إلى طبيعته، كان جين على وشك السقوط،
فسنده جوزيف وأسنده إلى جذع شجرة.
زفر جوزيف طويلًا، وخرج الدم من فمه بغزارة بينما كان ينظر إلى السماء.
هاه…هاه….
“لا أظن أنني سأتحمل هذا طويلًا… جسدي بدأ يتلاشى… ربما أمامي ثلاثة أشهر… أو خمسة.”
“لقد ختمتُ ذاكرته مؤقتًا… إن استيقظت يومًا ما، سيضطر إلى مواجهتها.”
تنفس جوزيف بعمق، وارتسمت على وجهه ابتسامة حزينة.
كان يحمل عبئًا لم يعرف جين عنه شيئًا.
تلك الابتسامة، وتلك المزاح الخفيف، لم تكن سوى قناعٍ يخفي وراءه معاناته.
كان جوزيف يحمل هذا الحمل منذ زمنٍ طويل.
ومع تكرار اللعنة واشتدادها،
ختم جوزيف ذاكرة جين، وتحمل ربع الألم عنه،
وحمل جين البقية وحده في صمت.
كل ما كان يريده هو أن يعيش مع أخيه أيامًا هادئة، ولو قليلة.
لكن القدر لم يكن رحيمًا.
لم يُرِد أن يعرف جين الحقيقة—الحقيقة التي لم يكن مستعدًا لها.
لأن انكشافها يعني بداية الفوضى للعالم.
أغمض جوزيف عينيه، وأسند رأسه إلى رأس جين.
كان المشهد هادئًا وجميلًا بين شقيقين تقاسما الألم والقدر.
وتحت غروبٍ صامت،
لم يكن أحد يعلم الحقيقة سوى الصمت نفسه،
كان شاهدا عن الحقيقة التي حملها جوزيف وحده على كتفيه.
Comments
Comments are being downloaded ...
Failure to download the comments.Please re -download the page.