الفصل ١٦: أنقاض  ڤاسثيرا

توقّف الزمن.

لم يكن لين يعلم كم مضى، منذ أن قادته الملكة البيضاء إلى غرفة العرش. جسده لم يعد له، وصوتها ما زال يهمس في عقله، كسُمّ بطيء لا يتوقف.

ثم… فتح عينيه.

الغرفة مظلمة. السقف غائب، الجدران باردة كأنها تنفست الصقيع ذاته.

وهي هناك. تقف أمامه.

ملكة الثعابين العظمى، الوحش الذي التهم رفاقه وجلبه إلى هذا المكان.

اقتربت بخطًى تُحدِث رجفة خفية في الأرض، كأن الجدران نفسها ترتجف خشيةً منها. مع كل خطوة، كان الرعب يتسلل إلى أطراف لين، يشلّ أصابعه، ويترك قلبه يخفق في فوضى لا تُحتمل.”

حاول أن يتراجع، لكن البرودة في قدميه سبقته، وارتطم ظهره بجدار الغرفة الباردة. لم يكن له مهرب.

امتدت يدها النحيلة كأنها ظل شيطاني، وضعت راحتها فوق كتفه. بدت ناعمة كأفعى تتلوى، لكن ضغطها كان كفيلًا بجعل ركبتيه تخونانه، فخرّ على الأرض كدمية مقطوعة الخيوط.

انحنت نحوه، وعيناها تتوهجان بوميض احمر، خالٍ من الحياة. وببطء كأن الزمن قرر أن يتوقف، بدأت تتحوّل…

جلدها تلاشى، واستحال إلى حراشف ناعمة. عمودها الفقري تمدد، تشكّل، تصاعد، حتى أصبحت ثعبانًا أبيض، حجمه يكفي لأن يبتلع الغرفة بأكملها.

التفّت حوله بإحكام، كأنها تقبض على قطعة من ماضيها الضائع.

ثم غرست أنيابها العاجية في عنقه، ليس كعاشقة، بل ككائنٍ بدائي يمارس طقوسه الفطرية.

وسمّها… لم يكن سمًا عاديًا.

كان بارداً، نعم، لكنه نابض. كأن كل قطرة تحمل قلبًا صغيرًا، ينبض ضد دمه، يهمس بأغنية قديمة لا يعرف معناها.

ثم جاء صوتها، ناعمًا كالهمس، زاحفًا كالفحيح:

“سسسس………دمك اللذيذ ينبض بالمانا… أنا حقًا متشوقة لليلة الزفاف.”

ضحكت، ضحكة خافتة كسقوط رماد فوق جثة، وأضافت بتهكّمٍ خافت:

“سسسس……….للأسف… ما زلتَ ضعيفًا. لن تتحملني، وإلا… كنتُ بدأت بك دون مراسم.”

حاول لين المقاومة. صرخ في داخله، ناشد أطرافه، لكن جسده لم يستجب. كأنه غريب فيه. بدا كفأر صغير بين أنياب مفترسه.

كل نبضة من السم كانت كحرف في لعنة أبدية. شيئًا فشيئًا، خمدت أطرافه. ثم شُلّ صوته. أراد أن يصرخ، أن يشتم، أن يبكي. لكنه لم يكن قادرًا.

ثم خرج صوت. ضعيف. ممزق. صرخة وحيدة اخترقت صمت الغرفة، كأن زجاجًا تحطّم في معبدٍ مهجور.

عادت الملكة إلى هيئتها البشرية، بشعرها المتموج الأبيض، بردها الملكي، وعيناها الخاليتان من الرحمة.

أمسكت بياقة معطفه الأبيض المهترئ، وقرّبت شفتيها من أذنه:

“لقد شللت جسدك، يا عزيزي. ما زلنا بحاجة للذهاب إلى ڤاسثيرا… لبدء مراسم تأهيلك كزوج لي.”

وهما يسيران كان الطريق إلى ڤاسثيرا صامتًا، مهترئًا كأن الزمن نفسه قد تخلّى عنه ونسي أن يمر من فوقه.

تفككت حجارته تحت الأقدام، وتشققت كأنها تتنفس وجعًا قديمًا، فيما لفّ الضباب الرمادي الأرض، يتسلل بين الشقوق كأرواح تائهة تبحث عن مخرج.

على جانبيه، كانت أعمدة مائلة ترتجف بصمت، منقوشة بلعنات بلغة بائدة، لا تُقرأ بل تُحس… كأنها تصرخ دون صوت في وجه كل من اقترب.

ومن بعيد، بدت أطلال البوابة وكأنها جبل سقط من السماء، يغمره السكون وتحيط به الهالة السوداء كإكليل من لعنة أبدية.

لا طيور، لا ريح، لا حياة… فقط وقع خطوات الملكة وهي تجره خلفها، كأنها تسير نحو قدرٍ لا مفرّ منه.

وفي كل خطوة، كان قلبه يتباطأ… لا خوفًا، بل كأن المكان يزرع الخوف في من يراه..

ثم… وصلوا.

كان الباب ضخمًا، شاحبًا، يعلوه الصدأ والعفن. يُعرف باسم “باب الإنقاض”، المدخل الوحيد إلى أنقاض ڤاسثيرا.

وضعت الملكة يديها على الباب، وأغمضت عينيها، ثم بدأت ترتل أنشودة بلغة غريبة، كلماتها كهمسات من زمن منسيّ، تسللت من بين شفتيها كأنها لعنة تُبعث من أعماق العالم السفلي.

لين لم يفهم حرفًا مما قالت، لكن صوتهـا… كان كافيًا ليرجف داخله شيء لم يعرف أنه موجود.

عندها… بدأ الباب يتنفس.

ارتجف الظلام من حوله، وتسللت شقوق من الضوء الأزرق الباهت عبر أحجاره المتآكلة، ثم تنفّس الباب شهقة واحدة… كأن كيانًا مدفونًا خلفه استيقظ.

رفعت الملكة جسده كأنّه طفل ميت، ثم رمته في بركة مياه راكدة… تُدعى بـ”بركة الإنقاض”.

قالت وهي ترمقه بنظرة باردة، كأنها تلقي عليه لعنة:

“لن تُفتح أبواب الإنقاض، يا زوجي العزيز… إلا بعد ثلاثين يومًا.”

ثم أغلقته خلفه، وتركت العتمة تبتلعه.

كان الماء بارداً، أكثر من الجليد، أكثر من الصقيع، لم يكن ماء… بل كفن. حيّ، يتنفس من حوله، فوقه، داخله.

لم يتبقى سوي الصمت في الانقاض المظلمة و محاولة لين للحركة.

  وفي لحظة  بدأت أعين التماثيل الحمراء تتوهج.

ومن أنابيب خفية، تسلل سائل أسود… بطيء، لزج، كأن الظلمة نفسها قد ذابت.

لم يكن مجرد سم.

كانت مادة بدائية، خُلقَت لهدفٍ واحد: محو كل ما هو بشري.

غزته من كل مكان… جلده، عينيه، أذنيه، حتى مسام عظمه. وكل قطرة منه كانت كصاعقة صامتة.

كان سمّ الملكة لا يزال فيه، عالقًا في نخاعه، يقاوم. لكن هذا… هذا كان أقوى. أعمق. أقدم.

تجاوز، ثم غمر، ثم طغى.

وفجأة… استعاد لين جسده. لكنه لم يكن انتصارًا.

بدأ بابتلاعها.

بقع من دمه احترقت، كأن السم يحرق تاريخه. أضلعه تفجرت بالسموم، عروقه اشتعلت، ثم خمدت. كل خلية فيه كانت تصرخ بصمت، تصرخ حتى الموت.

كان السم يتمدد في جسده لا ليقتله فحسب، بل ليسرق منه الزمن، الذاكرة، والهوية.

بدأ الزمن يتلاشى من وعي لين، لم يعد يميز بين الليل والنهار، ولا بين دقيقة وساعة. الأيام أصبحت ككتل رمادية تنزلق من بين أصابعه دون معنى، وكل لحظة تشبه التي سبقتها. عقله بدأ يتآكل ببطء تحت وطأة الصمت والوحدة، حتى بات يشعر وكأنه سجين في فقاعة زمنية منفصلة عن العالم، حيث كل شيء ساكن… إلا الألم.

شعره بدأ يتغير.  للونا اسود اقوي تركه لونه ككفن حزن.

أصابعه كانت أول من تمرد.

ثم ارتجف جفنه.

ثم انفجرت فقاعات من صدره، كأن رئتيه اشتعلتا نارًا.

ثم… تحرّك.

لكن الجسد الذي نهض، لم يكن لين.

كانت بشرته مغطاه بسما.

حاول لين الوقوف.

وعلى حافة البركة، كانت التماثيل تراقب.

كأنها شاهدة على ميلاد كيان… غاب لزمن.

لكن الجسد الذي نهض من البركة… لم يكن هو.

لم تكن بشرته تتشقق فقط… بل كانت تتسلخ، طبقة بعد أخرى، كأن جسده يلفظ جلده القديم.

كان يتحول كالثعابين، يتخلى عن قشره ليرتدي هيئةً أنقى، أبرد… وأغرب.

أبيض. ناصع. أكثر بياضًا مما ينبغي.

لونٌ لا ينتمي للإنسان، بل لتمثال صُنع ليُبجَّل، لا ليعيش.

بينما زحف خارج البركة، انحنى جسده فوق سطح الماء الساكن…

فرأى نفسه.

أول ما لفت نظره كانت العينان—باهتتان كضوء القمر، لكن بعمق كأنهما شاهدتا ولادة الموت.

وجهه لم يعد كما كان… بل أصبح وسيمًا بشكل مخيف.

جمالٌ حاد، جامد، لا ينبض بالحياة، بل يوحي بخطر هادئ.

كأن الطبيعة تزيّنت بالخراب.

عظام وجهه انحت بدقة، بشرته البيضاء الصافية تخفي خلفها شيئًا لا يُقال.

شفتاه، اللتان لم تتوقفا عن الارتجاف، بدتا وكأنهما تنطقان لعنة لم تُلفظ بعد.

وسامته لم تكن بشرية…

كانت كوسامة ملاك سقط، ثم خرج من الجحيم أكثر نقاءً مما دخل.

وعند حافة البركة، كانت التماثيل القديمة ترمقه… كأنها تشهد ميلاد شيء غاب عن الزمن.

بدأ لين للخروج من البحيرة لمغادرة هذا المكان.

وفجأة من الهدم في  رجفة من الزمن .

ومن عمق الظلام، زحف كائن عظيم.

ثعبان أسود، لا تُقاس أطرافه، ولا تُحسب خطواته. مرّ فوق سطح الماء دون أن يُحدث تموجًا، كأن العالم يعترف بسيادته.

عيناه زرقاوان، تتوهجان كالقمر في الظلمات، لا تسألان، لا تفكران… بل تحكمان.

نظرة واحدة منه، كافية لتفتيت الروح.

كان كأنه ليلٌ خالص، يُجسد الرعب في صمت ملوكي.

كان تجسيدا للياس كانه التهم أمل لين في التحرك… تحطم.

كان الفرار؟ فكرة مضحكة امام هذا الوحش.

مدّ الثعبان لسانه الطويل، ولفّ جسده الضخم حول لين. ضغط، بقوة، كأنّه يعصر آخر جزء من إنسانيته.

ثم… غرس أنيابه فيه.

صرخ لين.

صرخة ملأت الفراغ، مزّقت الصمت، كأن روحًا قد سُحبت قسرًا من جسدها.

الثعبان… لم يكن يعضه فقط.

كانه يحاول دخول جسده.

MANGA DISCUSSION