الفصل الأول: الحلقة المتكررة
في فراغ ضبابي لا يُرى فيه شيء، مكان خالٍ من الحياة—أسوأ حتى من الجحيم—وقف رجل ذو شعر أسود طويل وعيون ذهبية مكبّلًا بسلاسل ثقيلة. كان محاطًا بظلام خانق، يحدق مباشرة إليه. صوته المتشقق المملوء بيأسٍ عميق تردّد في الفراغ:
“جين… جين… جين…”
دمّر الفصل الأخير، وكن مستعدًا لما سيأتي.
عليك أن تنجو.
استيقظ جين فجأة وهو يلهث بشدة، غارقًا في عرقه.
“اللعنة… مجددًا. نفس الحلم… دائمًا نفسه.”
لكن ماذا كان يعني بـ”تدمير الفصل الأخير”؟
فرك وجهه بإحباط. “عشر سنوات. يطاردني منذ عشر سنوات بحق الجحيم.”
جرّ نفسه نحو المرآة، ونظر إلى الغريب الذي يحدق إليه من الطرف الآخر. شعر بني فوضوي يلتصق بوجه شاحب أنهكه السهر. عينان بنيتان مجوفتان محاطتان بهالات سوداء ترمشان بتعب، كأنهما نجمتان على وشك الانطفاء. كان طوله 1.78 مترًا يحمل يومًا ما ثقةً، أما الآن فقد انحنى تحت ثقل الصمت والعزلة لعقدٍ كامل. لم يكن فقط مرهقًا. بل كان يتفكك.
انهمرت الدموع من عينيه بلا سابق إنذار.
“لماذا… لماذا أبكي بحق الجحيم؟”
رشّ وجهه بماءٍ بارد، ارتدى زيه المدرسي البني بسرعة، وخرج مهرولًا. تبا لقد تأخرت بالفعل.
في شوارع سيول المزدحمة، كانت المدينة تضج بالحياة—ناطحات سحاب شاهقة، إعلانات لامعة، أبواق سيارات، وأرصفة مكتظة. ومع ذلك، كان معظم الناس يحدقون بشاشة ضخمة معلّقة على أحد المباني، تبث خبرًا عاجلًا:
الفصل الأخير من أشهر ويبتون في العالم، “عالم الشوجو المتعدد”، سيصدر اليوم.
تبددت الإعلانات الملونة والعروض الدرامية على الشاشة. كانت تبتلع الأفق، الهواء، الناس.
كان جين يشق طريقه بين الأجساد، وعقله لا يزال عالقًا في الحلم.
“ما معنى هذا بحق الجحيم؟” تمتم. “نفس الحلم اللعين. كل يوم.”
من حوله، كانت الحشود تعجّ بالحماس—بالغون، مراهقون، حتى الأطفال الصغار.
“سمعت؟” صاح فتى صغير. “النهاية أخيرًا! ” عالم الشوجو المتعدد” اخيرا سينتهي!”
“اخيرا! سنشهد الخاتمة! أعظم ويبتون في التاريخ!”
صرّ جين على أسنانه.
“نفس الهراء… يوم جديد.”
قال بازدراء: “أعظم ويبتون؟ بل هي الوحيدة الباقية. أما سائر الأعمال فقد طُمِست. المؤلفون؟ ماتوا. بلا تفسير. فقط… اختفوا.”
أشار طفل نحوه صارخًا: “أبي! هذا الرجل قد سب ” عالم الشوجو المتعدد!”
فاستدارت إليه العيون، كأنما قد كفر بمعبودهم.
انسحب جين هامسًا: “لقد استعبدتهم تلك الحكاية…”
وفي المدرسة، لم يكن الحال أفضل.
قال أحد التلاميذ صارخًا: “فروسيتا هي الأجدر! لا أحد يُقارن بها!”
فردّ عليه آخر محتدًا: “هذيان! لونا تسحقها سحقًا!”
وتمتم ثالثٌ بثقة جامدة: “نفرتيتي لوحدها كافية لمسحهما من الوجود.”
ثم علت نبرة ساخطة من زاوية الفصل: “كلّهن تافهات. سيرين سيركا هي الملكة الحقيقية.”
وما لبثت أن اندفعت المعلمة إلى الفصل، وصفعت كتابًا عريضًا على سطح المكتب، قائلة: “كفاكم هراءً! الكل يعلم أن تشونما الشيطان السماوي هو الأفضل—وسيمٌ حدّ الإجرام!”
فضحك أحد التلاميذ ساخرًا: “وهل رأيتم لينغ تيان الخالد؟ جميعهم بالنسبة له شخصيات جانبية!”
وهمس جين، وقد بدت في صوته مرارة اليائس: “نفس ذات الحلقة المفرغة… تكرارٌ لا ينتهي.”
ثم صاحت المعلمة بحماسة مفرطة: ” لدي أخبار مفرحة!بقي شهر واحد فقط على الفصل الأخير! واحتفالًا بهذه المناسبة، على كلّ طالب أن يشارك في مهرجان التنكّر. و من يرفض… فعقابه سيكون شديدًا.”
وهنا، تحطّم صبر جين، فهبّ واقفًا، واصطدم مقعده بالأرض محدثًا جلبةً. صاح بنبرة قاطعة:
كفى عبثًا! لقد تحمّلت هذا الجنون سنوات طويلة. لن أرتدي زيًّا تنكريًا، ولن أكون جزءًا من هذا الهذيان الجماعي!”
ساد صمت ثقيل، كأن الهواء نفسه انحبس.
قال أحد التلاميذ همسًا: “هل تجرأ على ذمّ الرواية؟”
فما لبثت المعلّمة أن ضغطت على زرٍ أحمر.
دخل رجلان ضخمان، يرتديان بدلتين سوداويْن، فأمسكا بجين واقتاداه بالقوة إلى مكتب المدير.
كان المدير جالسًا في سكون، خلف مكتبه الخشبيّ الثقيل، يرمقه بنظرةٍ جامدةٍ كأنها تزن خطاياه.
قال بصوتٍ خفيضٍ يخلو من الانفعال: “هل تعي ما اقترفته؟”
فأجابه جين، دون أن يطرف له جفن: “أجل. لقد رفضت أن أكون مختلا عقلي .”
قال المدير: “سندع والديك يتدبّران أمرك.”
ولم تمضِ سوى لحظات، حتى دخل والداه، عابسيْن، لا يشي وجههما بأدنى عاطفة.
قال المدير: “لقد عصى أمركما. رفض المشاركة في الحدث، وسبّ الرواية.”
نظر الأب إلى زوجته، ثم قال بصوتٍ باردٍ كحدّ السيف: “إنه ليس ابننا. لقد تبنيناه.”
تجمّد جين في مكانه. “ماذا…؟”
استدار الأب إليه، وقال: “ما كنّا لنرضع من لبننا حشرةً مثلك. إنك غريبٌ عنّا.”
فتح المدير أحد أدراج مكتبه، وأخرج ورقة كُتب عليها: أمر إعادة تأهيل.
“تفضّلا، وقّعا من فضلكما.”
وقّعاها دون تردد.
“لم يعد ابننا. افعلوا به ما تشاؤون.”
هكذا، أُخذ جين إلى قبو المدرسة.
إلى سجنٍ دفينٍ تحت الأرض.
قال في نفسه، وقد أحاطت به الجدران الخرسانية: “أفي مدرسةٍ يُبنى هذا القبر؟”
أُلقِي في زنزانة موحشة، جدرانها باردة، وأرضها معدنية. في وسطها كتاب ضخم ذو غلاف وردي، كُتب عليه بخطٍ براق: سرد ذاتي.
ثم انطلق صوت ميكانيكي من مكبر الصوت:
> “لا طعام. لا هواء. لا راحة. لا مراحيض.
يجب أن تلخّص هذه الرواية.
محاولة تمزيق الكتاب ستُقابل بصعقة كهربائية.”
المكافآت:
تلخيص ٣٠ فصلًا = طعام
تلخيص ٢٠ فصلًا = استخدام الحمام
تلخيص ٣٠ فصلًا = ساعة من الصمت
تلخيص ١٠ فصول = مروحة
تلخيص ١٠ فصول = نور شمس
الهدف اليومي: ١٠٠ فصل.
المهلة: عشر ساعات. النقاط تحتسب فقط بعد المراجعة.
وإن لم تكتب شيئًا؟
> “ستُجلد على ظهرك.”
اغرب عن وجهي!” صرخ جين محتدًّا.
ثم التزم الصمت. لم يُحرّك ساكنًا، بل جلس على السرير الحجري، لا يتنفس إلا بالكاد.
مضت الساعات.
دخل رجلان، يحمل أحدهما سوطًا طويلًا.
أمسك الأول بجين، ورفع الآخر السوط.
عضّ جين ذراع الرجل، لكن الأخير لم يتأثّر.
ثم انقضّ السوط كأفعى من نار.
صرخةٌ ممزّقة خرجت من فم جين، وارتطم جسده بالفراش، يتلوّى من الألم.
“إنهم ينوون قتلي حقًّا…” فكّر، مذهولًا.
بدأ وعيه يتلاشى، لكن ومضة من ذاكرة قديمة نبضت في ذهنه—
عبارة قالها أبوه ذات يوم.
“مُتبنّى…؟”
“فلمَ لا أذكر شيئًا من ذلك؟”
راحت الكلمة تُدوّي في رأسه، كطبول خفية لا تهدأ.
“أثمة خلل في عقلي؟ لماذا لا يعمل كما ينبغي؟”
قبض على رأسه بكلتا يديه، كمن يحاول انتزاع الألم من جذر الوعي.
“ما الذي يحدث لي؟!”
غير أن الغضب، مهما كان جارفًا، انزاح أمام حاجة أعمق—
الجوع.
بانقباضٍ في ملامحه، مدّ يده نحو الكتاب ذي الغلاف الوردي،
مُسلّمًا أمره لما كُتب له.
“لِمَ الغلاف ورديّ؟ ما هذا العبث؟”
فتح المجلد الأول.
“فروسيتا، زهرة الشتاء المحبوبة.”
وبدأ يقرأ.
فتاة مهجورة، تغار بجنون، تحمل في باطنها شخصيّتين تتصارعان على شابٍ فارغ النظرات؟
قالها بين أسنانه، ساخرًا:
“هذا قمّة السخف.”
لكنه لم يتوقّف.
فتح المجلد التالي:
“ليورا، شعلة الشهوة.”
امرأة أغوت الملوك، وباعت جسدها، ثم أسقطت إمبراطوريةً كاملة—
لأن الألم، فيما يبدو، أصبح مرادفًا للقوّة.
هزّ رأسه، وقال بازدراء:
“ستموت نهاية مأساوية لا محالة. وسيزعمون أنها انتصار نسوي. سخافة مكتملة.”
تنفّس بضيق، ثم دوّن ملخصًا مقتضبًا، جمع فيه مسارها ومسار فروسيتا،
ثم أغلق الكتاب بعنف.
“ما كان ينبغي لي أن ألمس هذا الغثاء.”
استدار بجسده عن الكتاب الملعون، مستلقيًا على جنبه.
“كلّ هذا يبدو كالحلم… كأن العالم غير حقيقي.”
“ربما، إن نمت، أصحو على حياة طبيعية…”
غير أن النوم لم يسقط عليه دفعةً واحدة، بل زحف إليه شيئًا فشيئًا،
كظلٍّ ينساب من بين شقوق الجدار.
“العيش في كذبةٍ هادئة، أهون من مواجهة حقيقةٍ تُمزّق العقل.”
Comments
Comments are being downloaded ...
Failure to download the comments.Please re -download the page.